الصلاة.. رحلة روح ومعراج قلب


الصلاة.. رحلة روح ومعراج قلب

محمد فتح الله كولن*

الصلاة معراج المؤمن، ودليله النوراني، وسفينة السائرين من أصحاب الإيمان وطائرتهم، وأقرب المنازل والديار لعوالم وراء هذه الدنيا للسائرين الذين يبتغون الوصال، ويبتغون القرب، وآخر خيمة لهم، وأقرب الوسائل لبلوغ الغاية والمرام.

وفي الوقت نفسه نستطيع أن نطلق على عبادة الصلاة -التي هي الاسم الآخر والعنوان الآخر للقرب من الله والتي تملك أعماقا مختلفة- اسم "الرباط" الذي يعني الاستغراق في فكر العبودية لله طوال العمر.

أما الوضوء فهو أول تنبيه في درب الصلاة، وأول تهيؤ لها. والأذان فدرب معنوي مهم. بالوضوء يتطهر الإنسان من الدنس البدني ومن السلبيات المعلومة وغير المعلومة، ويستمع الإنسان بالأذان إلى وجدانه. وعندما يصلي وحده الصلاة الأولى يحاول أن يجد الصوت الداخلي في أعماقه وأن يقتنصه، ثم ينتظر صلاة الجماعة لكي يحقق بالجماعة البدء بالحركة الكبرى.

إن هذه العبادة المباركة ذات الأبعاد الشاملة وذات الطابع المعراجي تقوم بنقل الإنسان إلى سماء اللانهاية لتصل به إلى عالم الملائكة. والإنسان يدع نفسه في لجة هذه العبادة خمس مرات في اليوم وكأنه يتطهر ويغتسل في جدول دافق.

وفي كل مرة ننغمر فيه في هذا الجدول نشعر بأننا تطهرنا أكثر. ثم ينقلنا هذا الجدول إلى بحر واسع، ويتجول بنا بين نقطتي البداية والنهاية، وهذا يعني تمرينات لنقلنا إلى نقطة من عالم الآخرة والخلود هي خارج أبعادنا الاعتيادية.

وفي اللحظة التي يفيض ويحين وقت الأذان من خلال ضجة الحياة، أو من خلال الصمت المخيم عليها، ومن إشارات عقارب الساعة، ومن تغيير الشمس لموضعها، وزيادة الحركة والضجة حول الجامع، ومن سماع خرخشة مكبرات الصوت، بينما يحاول المؤذن تغيير صوته تهيؤا للأذان.

بعد كل هذه الإشارات حول قرب وقت الصلاة، تبدأ في الصدور أحاديث صامتة، وسماع أصوات غير واضحة المعالم مثل هذيان المستيقظ توا من النوم، وسماع كلمات تتجاوز أبعادنا الجسمية، وكأن الإنسان بدأ يعيش حياة برزخ بين الدنيا والآخرة.

وتبدأ أحاسيس أخرى بالظهور نتيجة مناورات الفكر، ومحاولته البحث عن مجارٍ وقنوات جديدة. ويدمدم الإنسان بأشياء لا تعد ولا تحصى. وهنا وبعد قليل وقبيل بدء العبادة المزمع لإقامتها تتوجه القلوب إلى نوع من التوثب والتركيز الروحي. وتحاول بمعاونة جميع الملكات الروحية والقابليات الوصول إلى حالة من التهيؤ والاستعداد المرجو.

يمكن أن يعد التوضؤ أول خطوة للتهيؤ لعالم العبادة، ثم يأتي التوجه نحو المسجد. أما الأذان فكأنه دعوة للدخول إلى الحرم، وصوت لدني يساعدنا للوصول إلى تركيز معين في أعماقنا، وريشة عود تضرب على أوتار أحاسيسنا. ومع أن آذاننا تعودت على صوت الأذان الذي يتكرر كل يوم، فإنه يظهر أمامنا فجأة على الدوام وكأنه قمر يرتفع من وراء التلال الموجودة بيننا وبين العوالم الأخرى. ويقصف كالرعد ليحول أنظارنا الدنيوية إلى السماء. وهنا يبدأ فاصل موسيقي إلهي كأنه صوت نافورة فوارة أو صوت شلال هادر. وما إن يبدأ هذا حتى ينهمر على أرواحنا أعذب ألحان الدنيا.

نطرب بالأذان وكأننا نغتسل في جدول من الموسيقى، ونجد فيه سحرا آخر وطعما آخر ولطافة وسعادة أخرى. ويثير سماعه وحدس معانيه شعورا وكأننا نرتفع إلى الماء ضمن سلم حلزوني سحري، أو نتجول ببالون في الأعالي. وأما إن كان الأذان يؤدى على أصوله وكصوت للوجدان؛ فما أرق دقائق الأذان وما أنورها عندما يتردد صدى هذا الأذان المحمدي في السماء ويتماوج!

وبعد أن يتم بالأذان التهيؤ المعنوي، وقبل الإبحار في بحار القرب من الله قبل صلاة الفريضة تعد صلاة النافلة، ثم إقامة الصلاة فترة استقبال لنسائم الرحمة الإلهية على الأرواح. وتتم في أوتار ضمائرنا عملية تنظيم لمشاعرنا الإنسانية النابضة في قلوبنا.

ولا شك أن الصوت الحقيقي يبدأ بالسلوك المشترك والمشاعر المتوحدة للجماعة التي تقف تجاه القبلة، وتصطف خلف الإمام وقد عقدوا أيديهم أمامهم تعبيرا عن التوقير والاحترام. يركعون ويسجدون للحق تعالى، ويظهرون أقصى آيات التعظيم له، ويقفون أمامه خاشعين، وعند السجود يستوي عندهم موضع أقدامهم مع موضع جباههم. وبنسبة إحساسنا بشعور الجماعة في قلوبنا نستطيع تذوق كل صور جمال عصور الأنبياء والإحساس بها.

أجل.. إن من يتواصل مع تناغم الصلاة السماوية، فإن كل حركة وراء الإمام في الصلاة وكل كلمة، هي عند ابن آدم صوت داء الوصال، وصوت حسرة للجنة المفقودة، وتظهر بشكل شعور بالأمل وبالفرح بالوصال. والصلاة بالنسبة لمعظم من ترك نفسه في الجو المعراجي للصلاة تعد إشراقات فجر للأيام الحلوة التي تملأ خيالاتنا لعهودنا في الجنة من قبل، أو للجنات المقبلة.

وتنسلخ أرواحنا من الجو القاسي للجسد، وتنفعل مرة أخرى بأمل الوصال. ومع أنه لا يكون في كل صلاة ولا في كل صلاة فريضة فإن أرباب القلوب يستطيعون السياحة بين عالم الأزل والأبد عدة مرات في اليوم الواحد، ونجد في أعماقنا لذة آلاف الذكريات وكأننا نرتشف ماء الكوثر. وتهمس قلوبنا بأبيات الشاعر نسيمي:

مكاني أصبح لا مكانا

انقلب كياني كله روحا

وتجلي عندي نظر الحق عيانا

فغبت عن نفسي من لذة الوصال...

وبعد الوقوف للصلاة يود هؤلاء العباد الصادقون أن يعلنوا عن طريق الركوع مدى انفعال أرواحهم الصافية، وعن ارتجافات ورعشات أفكارهم النيرة المستقيمة التي لا عوج فيها ولا التواء.

وبشعور خليط من الإحساس بأنهم تجاه عظمة وجبروت، وأمام رحمة ولطف ينحنون مثل انحناء عصا، وهم يتمتمون بصوت خافت وبشعور من العبودية يلف كل كيانهم. يتمتمون دوما عن العظمة الإلهية، ويدقون باب الحضرة الإلهية بالركوع الذي يعد أسلوب توجه أهل السماء وإبداء خضوعهم له.

وبنسبة انفراج ذلك الباب يستطيعون الوصول إلى أعماق عالمهم الروحي. ففي كل ركوع تقريبا يتم لمس مطرقة باب الحضرة الإلهية العظمى بالتكبير والحمد، وبالمشاعر التي تتداعى بهذه الكلمات.

ينفث الركوع الذي يأتي بعد خطوة واحدة من الوقوف في الصلاة نفحاته علينا، ويهمس في أرواحنا همسات أجمل من الحياة نفسها، وأثمن من الأذواق الجسمية، وعن رؤيا لا يمكن أن نتخيلها أو نتصورها، ولا يمكن أن تتحقق في هذه الدنيا أبدا. ويعد قلوبنا أمورا تتجاوز بكثير ما ننتظره أو نتوقعه.. يعدها بأيام ودقائق زمردية وراء هذا العالي.

ألسنا جميعا أبناء أفكارنا وخيالاتنا وآمالنا بوجه من الوجوه؟ فعندما اهتدينا إلى الحقيقة بعد أن قاسينا الكثير في هذه الأيام الصعبة؛ فإننا نتجاوز الزمن الذي نوجد فيه ونثبت أنظارنا على "الزمن الآتي" بأمل الحصول على السعادة؛ حيث نتأمل باسمين سفوح الجنة.

ويحمل الركوع ببعده الذي يحمل معنى الانحناء أمام الحق تعالى توقيرا وتعظيما له؛ لذا فهو يأخذ معنى الانحناء من كل من أحنى ظهره، وأحيانا عندما نقول: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ} (يوسف: 86)؛ فنشعر برائحة قميص يوسف من عالم يوسف عليه السلام، وصوت خرير ماء الحياة.

السجدة هي أرضية وخلفية الشكر، ووعاء المهابة الذي تصهر فيه العبودية، وتسكب إلى قلب وقالب الواصلين. وكلما شعرنا بالسجود على وجهه الحقيقي، وتفاعلنا معه نحس -ونحن ننتقل من القيام في الصلاة إلى الركوع ثم القيام- وكأن هناك عصارة من الإيمان ومن الإسلام ومن الإحسان تنسكب إلى التلال الزمردية لقلوبنا وتنساب إليها.

عند السجود تلتقي جبهتنا وأقدامنا في المستوى نفسه، ونشكل نصف قوس، ونتوتر مثل وتر القوس، وننقلب إلى نفس وإلى صوت أنين؛ فنحس أن وسعة آمالنا تسبق أعمالنا، وتكفي كل شيء، وأن رحمة الله تسبق كل شيء عندما تتحد مع إيماننا وتكون وحدة معها؛ فنشعر وكأننا نمر من تحت أكاليل سماوية يقع طرف منها في عالمنا، والطرف الآخر في دار العقبى محاولين تغيير حظوظنا.

وبسكر هذا الشعور، يرفع رأسه بكل توقير من السجود مبديا تعظيمه وعرفانه بكرمه تعالى لكي يلون شعوره بالوصال ببعد آخر، ويقول: "التحيات لله..." بكل الأدب الذي يقتضيه وجوده في الحضرة الإلهية، ويأخذ به الوجد حتى كأنه لم يعد كائنا من كائنات هذه الدنيا، أي يأخذ حالا ومعنى وسحرا فوق الطبيعة.

وبعاطفة لا تعرف الارتواء ولا الشبع يتوجه بطل الصلاة بهذه المشاعر الفوارة -خارج حدود الكم والكيف، والمتعمقة بالنية الخالصة التي يخلد بها يقينه ويرتبط بها بالله تعالى- لأداء فرض الشكر للحق تعالى على كل نعمة من حياة ومال وسائر نعمه الأخرى؛ فيذكر الله بكل مشاعر كيانه ويئن... يذكر النبي، فيمتلئ داخله بالانشراح... ويفكر بالمؤمنين الذين يشاطرونه السعادة نفسها فيدعو لهم بالخير.. ثم ينهي صلاته التي بدأها بالتكبير بالشهادة التي هي أساس الدين، وأساس رحلة المعراج هذه.

ولا يشبع الذين تعودوا على أداء الصلاة منها أبدا، بل يقول كل منهم عقب الانتهاء من كل صلاة: "هل من مزيد؟"، فينتقل من صلاة نافلة، إلى نافلة أخرى، ويرتفع كالشمس في صلاة الضحى، ويلمس بصلاة الأوابين مطرقة باب القرب من الله، ويرسل الأنوار بصلاة التهجد إلى ظلام البرزخ، ويحاول أن ينسج حياته بالصلاة مثلا دانتيلا جميلة، ولا يدير رأسه أبدا عن العالي النوراني الذي يعيش فيه..

------------------------------------------

*مأخوذ من كتاب "ترانيم روح وأشجان قلب".
Read more...

سعادتك بين يديك

سعادتك بين يديك
يمكنك أن تجعل يومك أكثر سعادة..

طريقة تفكيرك في الأمور هي التي تجعلك تشعر بالسعادة أو التعاسة، صحيح أننا نقابل كل يوم مواقف عديدة بعضها قد لا يؤدي للسعادة، ولكن علينا أن نرفض التفكير في الأحداث السلبية وننعش ذاكرتنا باللحظات السعيدة، ولا نجعل هذه المواقف تؤثر على ردود أفعالنا ومشاعرنا.

ولكن إذا تركنا العنان للأحداث لتؤثر فينا سنصبح عبيدا لها ونخسر حريتنا، لابد أن نحرر أنفسنا من التأثيرات الخارجية ولا نجعلها تفقدنا سعادتنا، بل ونزيد من المواقف التي تسعدنا أكثر.

من الصعب أن نصف معنى السعادة، ولكن يمكن أن نقول أنها شعور بالسلام الداخلي والرضا، وعادة ما نشعر بها عندما لا نعاني من أي قلق أو مخاوف..

ولكن هل أنت سعيد؟ وهل تعرف معنى السعادة وكيف تحققها؟ إذا كنت تريد السعادة أجب عن هذه الأسئلة أولاً!!

فعليك أن تعرف أنه يمكنك أن تكون سعيدا إن أردت ذلك، يخطئ الكثيرين باعتقادهم أنهم لا يستحقون السعادة، ويرضون بحياتهم غير سعداء ويعتقدون أن هذا هو قدرهم، لكن الحقيقة أن السعادة مثل أي شيء أخر في الحياة تحتاج للرعاية حتى تكبر وتنتعش..
وفيما يلي بعض النصائح التي عليك أن تتبعها لتخلق السعادة في حياتك:


1- حاول أن تبحث عن الأسباب التي تسعدك، فكل شخص لديه متطلبات خاصة به تجعله سعيدا، وتختلف هذه المتطلبات من فرد لأخر، ولا تقلق إذا كانت رغباتك لا تماثل أصدقائك.

2- ضع خطة لتحقيق الأهداف التي ستجعلك سعيدا.

3- أجلس دائما مع أشخاص سعداء وحاول أن تتعلم منهم ولا تنسى أن "الضحك عدوى"، كما أنه من السهل أن تفكر بطريقة سلبية ومتشائمة إذا كان المحيطين بك يفكرون كذلك.

4- إذا تعرضت لمشكلة حاول أن تبحث لها عن حل بدلا من أن تجلس حزينا، الأشخاص السعداء لا يجعلون المشاكل تؤثر على حياتهم لأنهم يعلمون أن بعض التفكير في المشكلة سيقلب الظروف لصالحهم.

5- حاول قضاء بضع دقائق كل يوم للتفكير في الأشياء التي تجعلك سعيدا، هذه الدقائق ستعطيك فرصة للتركيز على الأشياء الإيجابية في حياتك والتي بالتالي ستؤدي لاستمرار سعادتك.

6- من الضروري أن تخصص بعض الوقت في اليوم لنفسك، تأخذ حمام دافيء وتسترخي أو تقضي وقت إضافي لتهندم نفسك، أو تشاهد برنامجك المفضل أو تذهب للسينما أو تأكل طعام تحبه.. وهذا لا إراديا سيغير مزاجك طوال اليوم للأفضل.

7- خصص كل يوم وقت لقراءة بعض الصفحات من كتاب أو مقال مهم.
8- الاستماع إلى بعض الموسيقى الهادئة، شاهد مسرحيات أو أفلام كوميدية.

9- الحفاظ على صحتك وسيلة مهمة لتحقيق السعادة، بمعنى أن شعورك بالامتلاء أو تناولك طعام غير مغذي يؤثر سلبا على حالتك المزاجية، كما أن ممارسة بعض الرياضة يفرز "إندروفينس" endorphins والذي يعطيك إحساس بالسعادة.

10- السعي إلى تغيير طريقة نظرتك للأمور، فلننظر دائما إلى الجانب المشرق.

11- دائما حاول النظر لما حققته ولا تركز على ما لم تحققه.
في بعض الأحيان تبدأ يوم وفي ذهنك بعض الأهداف التي تريد تحقيقها وفي أخر اليوم تشعر بالإحباط وعدم الرضا لأنك لم تستطع أن تفعل كل هذه الأمور.

والأفضل أن تنظر إلى ما حققته من هذه الأهداف وليس ما لم تحققه، فقد تكون أنجزت الكثير من الأشياء خلال اليوم وتجعل بعض الأشياء البسيطة الناقصة تشعرك بالفشل والإحباط " لا تنظر إلى الجزء الفارغ من الكوب".

12- توقع السعادة دائما وحاول أن تبتسم كثيرا.

13- حاول أن تقوم بأي عمل خلال اليوم يجعل الآخرين سعداء مثل مساعدة زملائك، أو مساعدة المحتاجين، أو تترك مقعدك في الأتوبيس لشخص أخر أو أن تعطي هدية لشخص تحبه، فعندما تحقق السعادة لغيرك ستشعر بالسعادة وسيحاول المحيطين بك أيضا أن يسعدوك.

14- قد يشغلك عقلك بالتفكير في الصعوبات والأشياء السلبية، ولكن لا تدع هذا يحدث وابحث على الإيجابيات في كل موقف تتعرض له.
15- لا تحسد الناس على سعادتهم بل بالعكس أشعر بالسعادة من أجلهم .

16- وأخيرا من المهم أن تعرف أنك تستحق السعادة، فالذين يعتقدون أنهم ليسوا جديرين بالسعادة يدمروا لا شعوريا أي جهد للحصول على السعادة، ويمكنك أن تذكر نفسك يوميا بأنك تستحق هذه السعادة وتفكر في خطوات عملية للتوصل إليها.
Read more...

تساؤلات عن مستقبل الإسلام في أوربا الجديدة

تساؤلات عن مستقبل الإسلام في أوربا الجديدة
علي بوراوي- انفيرس (بلجيكا)
تعتبر العلاقة بين الإسلام والغرب، قضية كبرى تؤثّر بشكل مباشر وعميق في علاقات الغرب مع العالمين العربي والإسلامي، في شتّى المجالات، بدءا بتفاصيل الحياة اليومية لكلا الجانبين، إلى العلاقات الإستراتيجية التي تصيغ أحوال العالم وتحدّد مآلاته.
ورغم أنّ جميع الأطراف الفاعلة، وفي كلا الجانبين، تولي هذه المسألة أهميّة كبرى، إلاّ أنّ التقدّم الإيجابي فيها ظلّ جدّ محدود، لعوامل كثيرة ليس هذا مجال بحثها.
المؤتمر الذي احتضنه معهد الدراسات المغربية والمتوسطية في مدينة انفيرس البلجيكية خلال الأيام الثلاثة الأخيرة من أكتوبر 2010، يعتبر نقطة مضيئة في هذا المجال، وخطوة إيجابية من المهمّ التوقّف عندها.
يبدو أنّ من أسباب نجاح هذا المؤتمر، غلبة الصّبغة الأكاديمية والعلمية في المشرفين عليه، وعدم حرص الجهات المنظّمة على الاستثمار السّياسي فيه، فكانت أشغاله صادقة في التّعبير عن واقع، والأصوات التي تحدّثت فيه حريصة على الحوار والتواصل والبحث عمّا يجمع ويفيد كلا الجانبين اللّذين عقد المؤتمر من أجلهما: مسلمو أوربا، وأوربا نفسها.
لقد حدّد المؤتمر مجاله، وهو كما عبّر عن ذلك عنوانه "أية مكانة للإسلام في أوربا الجديدة". وجاء بمتحدّثين لكلّ منهم دوره وإسهامه في صياغة هذه المكانة: باحثون أكاديميون، ومسؤولون سياسيون ليسوا من الصف الأوّل، وممثلون للمسلمين في مختلف الدول الأوربية، ومن اختصاصات مختلفة.
فكانت جلسات المؤتمر في معظمها، صادقة في التعبير عن واقع، دقيقة في تشخيص معضلاته وصعوباته، جادة في البحث عن حوار جدي بين الجانبين، يساهم في تعارف أعمق بينهما، وتواصل دائم، وتعايش يخدم مصلحة الجميع.
ولم يخل المؤتمر - كما هو حال مؤتمرات العرب والمسلمين دائما- من متحدّثين يغرّدون خارج الزمن، ويتحدّثون بلغة لا علاقة لها بالعلم والدقّة، ولكنها كانت قليلة وغير مؤثّرة.
دين مازال مجهولا
كانت كلمات المتحدّثين الأوربيين (غير المسلمين)، ومعظمهم من بلجيكا، مرحّبة بالحوار بين الجانبين، مؤكّدة على ضرورة استمراره وتعميقه، صادقة في وصف الوجود الإسلامي وتأثيراته على الحياة الأوربية من وجهة نظرها، واضحة في طرح ما لديها من أسئلة واستفسارات.
فقد أكّدوا جميعا على أنّ الإسلام مكوّن رئيس من مكوّنات الهوية الأوربية، وأنّ صورته فيها يغلب عليها عدم الفهم إلى حدّ التشويه، وأنّ تحسينها بحاجة إلى تواصل وحوار بنّاء بين الجانبين.
وفي ذلك يوضح عميد جامعة أنفيرس الدكتور آلان فرشورين، أنّ إنشاء معهد الدراسات المغربية والمتوسطية، كان بهدف تنشيط الحوار بين الديانات المختلفة، لأنّ التعددية الثقافية بحاجة إلى عمل ناجع.
كما أنه يرى أنّ الدين لا يمكن أن يختفي في ظلّ العلمانية، ولكنه سيعيش إلى جانبها ويتعايش معها، خصوصاً وأنّ في بلجيكا، وفي مختلف دول أوربا، جاليات مسلمة كبيرة، تولّدت عنها ظاهرة تديّن جديدة لم تعرفها مجتمعاتنا من قبل، وهناك أكاديميون مختصّون في قضايا الإسلام والمسلمين، حريصون على تعميق بحوثهم، وتطوير حركة التواصل والحوار بين مختلف الثقافات المكوّنة للمجتمع.
ولم يخف في حديثه الحديث عما أسماها "حركات إسلامية متطرّفة" سلّطت عليها أضواء كثيرة لا تستحقّها، بينما بقي الإسلام مجهولا، على أنّ المجتمع بحاجة إلى فهم أعمق لهذا الدّين، وإقامة حوار جاد ومتواصل مع المسلمين، ويقول "فرشورين": "نحن متطلّعون إلى معرفة مقترحاتكم حول الإسلام في أوربا، لأنّه حاضر فيها، ويستحقّ أن يعترف به اعترافاً كاملا".
أما د. ليك كوسنس، مدير معهد الدراسات المغربية والمتوسطية ، فهو ينتقد مواقف عدد من السّاسة الأوربيين في محاولة تهميش الوجود الإسلامي في القارة، مع تأكيده بأنّ الإسلام أصبح عاملا مهما في تشكيل هوية أوربا، إلى جانب المسيحية واليهودية.
ويتحدّث عن حضور الكنيسة في المجتمع الأوربي، قائلاً إنّ العلمانية أخرجتها من المظهر العام للمجتمع منذ الستينيات، ولكن الإسلام اليوم حاضر بقوّة، وإنّ جهل المجتمع الأوربي به أدّى إلى حصول خلافات، وهذا لا يساعد على التعايش.
لذلك، قامت السلطات في مدينة أنفير بتكوين مرشدين يستقبلون المواطنين في المساجد ليعرّفوهم بالإسلام، مع التأكيد على أنّ التعليم يعتبر من أهمّ الوسائل لدمج الإسلام في أوربا الجديدة.
ويدعوا "كوسنس" المسلمين إلى توظيف المجالين العلمي والاجتماعي لتطوير واقعهم، إضافة إلى أنّ المؤتمر الذي عقد مؤخراً يعتبر بارقة أمل مهمّة، ويسحب البساط من تحت أرجل "المتشدّدين" الذين ينشرون ثقافة الخوف من الإسلام.
وعن الجالية المسلمة تتحدث مونيكا دي كونينك، نائبة محافظ المدينة بقولها إن بعض المواطنين الذين يرون في الإسلام خطرا، لم يأخذوا ذلك عن الأحزاب المتطرّفة، ولكن بناء على تصرّفات بعض المسلمين.
وتضيف بقولها "بالمدينة ستون مسجدا ومصلّى، ونحن نسمع كثيرا عن الإسلام، ولكننا لا نعرفه، ولدينا حوله أسئلة كثيرة، ونسمع عن رمضان وعيد الفطر وعيد الأضحى، ولكننا لا نعرف مضمون هذه المناسبات".
وهي أيضاً تؤكد على أهمية حرية الرّأي وحرية التدين، وتقول: "إذا أردنا أن نحافظ على حرية المعتقد الديني، فيجب أن نحافظ على حرية الرأي" بعدما أصبح الإسلام حقيقة في أوربا، وهذا يعتبر إثراء كبيرا لهوية المجتمع، يجب المحافظة عليه.
الإسلام يثري أوربا
ويقول باسكال سميت، وزير التعليم والشباب وتكافؤ الفرص، إنّ الإسلام يشكّل سؤالا مهما في برامج الأحزاب السياسية الأوربية، لارتباط ذلك بالهجرة، وارتفاع عدد المسلمين. ويوضح أنّ نسبة المسلمين في بلجيكا تقدّر بنحو 10% من العدد الإجمالي للسكان، وهو ما يجعل اهتمام الدولة بالإسلام أمرا طبيعيا، فوضعت قوانين تنظّم حياتهم، وقامت بمراجعة الكثير من الإجراءات بناء على المعطيات الجديدة.
ويشيد الوزير بدور معهد الدراسات المغربية والمتوسطية في حشد كفاءات علمية وأكاديمية كبيرة للإرتقاء بالحوار مع المسلمين وتعميق معرفة المجتمع لهم، ويرى بأنّ المطلوب أن ينتقل ذلك الحوار في مرحلة ثانية إلى المجتمع وتحذيره من الخلط بين الإسلام والإرهاب.
أما انيمي نيتس، وزيرة الدولة السابقة وعضو البرلمان الأوربي، ورئيسة الحزب الليبرالي الديمقراطي البلجيكي، فقد هاجمت "العلمانية الفرنسية" وترى بأنّها لا تناسب المجتمع البلجيكي. وتقول إنّ الفصل بين الدين والدولة في بلجيكا ليس حادا كما في فرنسا، وأنّ لهذا البلد نموذجا يجد فيه أصحاب العقائد مكانهم، سواء كانوا مسلمين أو يهودا أو مسيحيين.
وتنتقد الوزيرة موجة العداء للإسلام التي عمّت معظم الدول الأوربية، وتقول "إنّ الإسلام ليس خطرا على هوية أوربا، وأنّ التعدّد الثقافي نموذج نؤمن به في بلجيكا".
وتؤكد "انيمي" أنّ القلق الأوربي من نتائج هجرة المسلمين إليها، خصوصا في بعدها الديمغرافي، يحتاج إلى وقت ليزول، ولكن من الخطإ توظيف ذلك سياسيا.
أمّا أسقف المدينة، جوهان يوني، فتوضح أنّ الديانة المسيحية لم تولد في أوربا، ولكنها مثل اليهودية والإسلام، نشأت في المشرق وانتقلت إلى الغرب.
وتقول "جوهان" إنّ أوربا كانت صعبة جدّا على المسيحيين، فكان لها صراع مع القانون الروماني. وكان اندماج المسيحيين فيها صعبا، وهذا ينسحب على الأديان الأخرى،
المسلمون قلقون
د. محمد البشاري مدير معهد ابن سينا، والأمين العام للمؤتمر الإسلامي الأوربي، يرى بأن مسلمي أوروبا ما زالوا يدفعون ثمن ما جرى منذ أحداث 11 سبتمبر، إلى جانب صعود أحزاب اليمين المتطرف في أكثر من بلد أوربي، وحصول أحداث عنصرية ضد المسلمين. ويعتقد أن المسلمين في أوربا قلقون من هذه الأجواء، وأنّ انعقاد "المؤتمر" يبعث الثقة ويحرّك إرادة الحوار من أجل تعايش يخدم المجتمعات الأوربية التي يمثل المسلمون جزءا منها.
بينما يرى د. محمد الزيادي من جمعية الدعوة الإسلامية العالمية إلى أن الإسلام في أوروبا لم يقرأ بعد قراءة سليمة مع وجود دور سلبي للإعلام في هذا الجانب.
مفاتيح الفهم: التعليم والإعلام
وفي تناولها لصورة الإسلام والمسلمين في الكتب المدرسية الأوروبية خلال ثمانينيات القرن الماضي خلصت د. فوزية العشماوي أستاذة الحضارة بجامعة جنيف بسويسرا إلى أن الكتب تقدم الرسول محمد "ص" على أنه مؤلف القرآن وتقدم المسلمين على أنهم غزاة غلاظ دمويون.
بحثها الذي قامت به بناء على تكليف من الإيسسكو كانت له نتائج إيجابية، حيث تم تعويض معظم الصور السلبية بصور أكثر اعتدالاً وإنصافاً غير أن الأمر يظل بحاجة إلى جهد وعمل.
ويعتمد الإعلام الأوروبي معايير مزدوجة تجاه الإسلام والمسلمين وهو ما يؤكده د. التجاني بولعوالي في موضوعه "الإسلاموفوبيا" حيث وجد بأن هناك تضخيم لبعض المعلومات وتجاهل أخرى بهدف تشويه صورة المسلمين، لكنه يتحدث أيضاً عمن أنصفوا الإسلام والمسلمين وكانوا موضوعيين فيما يكتبون مع أنهم حوربوا بقسوة ولم يجدوا من المسلمين الاهتمام الذي يليق بهم.
ويتفق مع من سبق "الصحفي فيليب فويتس، الكاتب العام لمجلس الصحافة في بلجيكا" حيث أشار إلى أنّ الصحافة البلجيكية بقيت في جزء كبير منها رهينة صور مسبقة عن الإسلام والمسلمين، وتركّز على وجوه التشدّد والتطرّف.
ووصف المصادر التي يؤسّس عليها الصحافيون تحاليلهم حول الإسلام والمسلمين بأنها ضعيفة وغير كافية، وسبب ذلك أنّ علاقة الإعلام بالمسلمين جدّ محدودة، فيبقى الصحفي الأوربي غير المسلم هو الذي يحرّر تلك الأخبار، مع إشارته إلى أن نسبة الصحفيين الأجانب في بلجيكا لا تتجاوز 1%، بينما يمثّل المسلمون 10% من مجموع سكان البلاد.
ويضيف الصحفي البلجيكي أنّ الإسلام يعتبر في بلجيكا دينا جديدا على إعلامها، وأنّ الصحفيين لا يجدون من يمثّل الإسلام بشكل صحيح، فيبقى نقل واقعهم منقوصا وغير صحيح أحيانا، خصوصا وأنّ الإعلام يبحث دائما عمّا هو مثير من الأخبار.
واستغرب فويتس من الضعف الإعلامي للمسلمين، وهو يرى بأنّ صوت المسلمين غائب في بلجيكا وغيرها من الدول الأوربية، رغم أنّ دينهم هو ثاني ديانة من حيث الأتباع، فهم لا يتوفّرون على إذاعة أو تلفزيون، كما هو حال الأرثودكس واليهود مثلا، في ظرف صعدت فيه أحزاب اليمين المتطرّف.
اختلاف في الرّؤى
وخلال تناول محور "التعامل مع الإسلام في المدن الأوربية" أثيرت مسألة حاجات أبناء المسلمين على مستوى البرامج التعليمية والتغذية الحلال، وتيسير إقامة الشعائر.
لقد كان مؤتمر "أية مكانة للإسلام في أوربا الجديدة" إضافة نوعية مهمّة في علاقة الإسلام بالغرب عموما، وأوربا بشكل خاص. فقد أكّد بما لا يدع مجالا للشك، أنّ هذا الدين هو أحد مكوّنات الهوية الأوربية، ولكنّ صورته مازالت مشوّهة وبحاجة إلى تصحيح. ونجح المؤتمر، بفضل الجهود التي بذلها منظّموه، في جمع عدد هام من الباحثين المختصّين المؤمنين بالحوار والتعايش والتعاون، من كلا الجانبين، وأسّس لجسور تعاون جدّي وواقعي، قادر على الاستمرار والعطاء. وقدّم إضافة نوعية في الحوار البنّاء بين الجانبين، هي بحاجة إلى الإضافة والتطوير مستقبلا.
Read more...

لإسلام دين جديد في بلجيكا وأوربا الغربية

فيليب فوتس : الإسلام دين جديد في بلجيكا وأوربا الغربية



هو صحفيّ ذو تجربة ثريّة وخبرة طويلة في المشهد الإعلامي البلجيكي، جريء لا يجامل في الحقّ، ولا يتردّد في الصّدع برأيه، صهذا هو فيليب فوتس، الذي عمل فترة طويلة في مؤسسة الإذاعة والتلفزيون البلجيكية الحكومية، ويتولّى حاليا مهمّة الكاتب العام لمجلس الصحافة البلجيكي، وهي مؤسّسة تتولّى النّظر في القضايا التي يرفعها مختلف الفاعلين ضدّ وسائل الإعلام.

يؤكّد فيليب فوتس في حواره مع "إسلام اون لاين" أنّ صورة الإسلام والمسلمين في وسائل الإعلام الغربية سلبية لا تعكس الحقيقة، ولكنّها تعبّر عن واقع غير متوازن، ويحتاج إلى جهود من كلا الجانبين.

ويرى فيليب فوتس أنّ الحقيقة في هذا المجال،ص غابت بين إعلام يصنعه الرجل الأبيض، ويبحث عن الإثارة، ومسلمين اختلفت أصواتهم، ولم يعرفوا بعد كيف يتعاملون مع الإعلام، ويؤكّد الصحفي البلجيكي أنّ المتطرّفين من كلا الجانبين يروّجون لثقافة الصدام، وأنّ المصلحة تكون بالحوار والتّواصل بين الغرب والمسلمين.. وهذا نصّ الحوار معه.

تعدّدية غائبة ومسلمون مختلفون

* تقول إنّ صورة الإسلام في الإعلام الغربي سلبية، وهذا أمر يؤلم المسلمين، ويشوّش على علاقاتهم بالغربيّين، ويطعن جهود الحوار بينهم. فما هي الأسباب التي جعلت صورتهم سلبيّة ومشوّهة إلى هذا الحدّ؟

- نعم هي صورة سلبية، لأنّ هناك مشكلا في تمثيل ذوي الأصول الأجنبية في أوربا، ونظرا لأنّ دين هؤلاء المهاجرين هو الإسلام، فإنّ صورته تتأثّر بصورتهم، فقد لاحظنا أنّ هناك ضعفا كبيرا في تمثيلهم في مختلف وسائل الإعلام، سواء في أقسام التحرير أو في الإنتاج، أو في المتعاونين مع المؤسسات الإعلامية.

ففي بلجيكا مثلا، يمثل الصحفيون من أصول أجنبية نسبة 1% من مجموع الصّحفيين، في حين أنّ نسبتهم من مجموع سكّان البلاد تبلغ 10% أو أكثر بقليل، هذا الواقع له تبعاته في وسائل الإعلام، وفي صورة الإسلام فيها، لأنّ أغلبية المهاجرين مسلمون.

كما ينعكس هذا الواقع على علاقة الصحفيين البلجيكيين والغربيّين عموما، بالمسلمين، فهم لا يتوفّرون على مصادر معلومات وأخبار من أبناء الجالية المسلمة، رغم أنّ من طبيعة عمل الصّحفي أن يبحث دائما عن مصادر معلومات، وقد اطّلعت مؤخّرا على دراسة أجريت في بلجيكا تتحدّث عن إعلام الرّجل الأبيض، وتقول إنّ الإعلام الموجود عندنا هو إعلام من صناعة الرّجل الأوربي، الرّجل الأبيض، والصّورة التي يقدّمها هذا الإعلام عن المهاجرين والمجموعات المهاجرة، وهي في معظمها مجموعات من المسلمين، هي في الحقيقة صورة وضعها الرجل الأبيض الذي يمثّل أغلبية السّكان، عن المسلمين الذين هم أقلّية، وغير ممثّلين بشكل جيّد. هذا سبب أوّل.

السبب الثاني في وجود هذه الصّورة السلبية للإسلام والمسلمين في وسائل الإعلام، تتعلّق بما شهدته السّنوات القليلة الماضية من أحداث مهمّة وخطيرة، أستحضر هنا الأحداث الإرهابية، والحضور العسكري الغربي في العراق وأفغانستان، وقد أثّرت هذه الأحداث سلبا على العلاقة بين الغرب والإسلام بصفة عامة، فأصبحت أكثر توتّرا خلال السنوات الأخيرة، وانعكس هذا في وسائل الإعلام، فأصبح هناك ميل إلى أن تكون لكلّ من الجانبين سواء الغربي أو الإسلامي، وجهات نظر متشدّدة تجاه الطرف الآخر، ولديّ اعتقاد بأنّ أصوات الجماعات المتشدّدة، قد أخذت حيّزا كبيرا، فهي مجموعات ناشطة، وتعرف كيف تخاطب الرّأي العام وتبلّغ صوتها.

السّبب الثالث هو أنّ الإسلام دين جديد في بلجيكا وأوربا الغربية عموما، فهو دين الجالية المسلمة، وهذه الجالية لم تجد بعد المكان الذي يناسبها في المجتمع ومؤسّساته، ففي بلجيكا هناك مشكلة كبير في تمثيل المسلمين، وإنشاء هيئة تمثّلهم، هناك داخل المسلمين خلافات تؤثّر بشكل سلبي، وهذا يعطي صورة سلبية عنهم.

من جانب آخر، فإنّ جميع الأقليات الدينية والعقائدية في بلجيكا، لها الحقّ في برامج الإذاعة والتلفزيون الحكوميين، ولكن لا بدّ من أن يكون هؤلاء منظّمين ليتمكّنوا من ذلك، وما ألاحظه هو أنّ المسلمين لم ينجحوا بعد في أن ينظّموا أنفسهم ليستفيدوا من هذا الحقّ.

وإلى حدّ الآن، لا وجود لوسائل إعلام إسلامية أو أصوات إسلامية في وسائل الإعلام، أحسب أنّ هذا الصوت يجب أن يكون له مكان، صوت إسلامي معتدل وليس متشدّد، وهذا شرط من شروط إدارة الحوار بين مختلف مكوّنات المجتمع.
اسمح لي أن أضيف أنّ بعض المسلمين، لهم مشكلة مع حرية التعبير كما نراها نحن في الغرب، فعندما نشرت صوراً اعتبرها المسلمون مسيئة للرّسول محمد في صحف سويدية، وقع تهديد بعض الكتّاب بالقتل، وهذا ما اضطرّهم إلى الاختفاء، هذا بالنّسبة لنا غير مقبول، لأنّه يتناقض مع واقع التعدّدية والإيمان بحرية التعبير وحرية المعتقد كما نراها نحن الغربيون، التحركات التي قامت بها مجموعات صغيرة من المسلمين، تركت أثرا سلبيا جدّا.

هذه بعض العناصر التي ساهمت في إعطاء صورة سلبيّة في الغرب عن المسلمين بصفة خاصّة والإسلام بصفة عامّة في وسائل الإعلام الأوربية، وجعلها تقدّم صورة سلبية تخالف الحقيقة.

*لكنّ المسلمين من جانبهم، يؤكّدون أنّ الكثير من وسائل الإعلام ترفض تقديم الحقيقة عنهم، وتتعمّد الإساءة إليهم وتشويه دينهم، مهما بذلوا معها من جهد في التعريف بأنفسهم وحقيقة دينهم. ويؤكّد الكثيرون أنّ إرادة تقديم الحقيقة وتصحيح صورة الإسلام والمسلمين في وسائل الإعلام الغربية، ضعيفة أو شبه منعدمة، ما رأيك؟
- نعم، هناك توجّه لدى وسائل الإعلام نحو تصعيد الخلافات، فهي تروي قصصا لا بدّ أن تكون فيها جهة حسنة وأخرى سيّئة، وهي تتّجه كثيرا إلى المبالغة في نقل الحقائق والمواقف، هذه مشكلة حقيقية في وسائل الإعلام.

من الجانب الآخر، أقصد المسلمين، هناك أيضا مشكلة، وهي أنّ كثيرين منهم لم يفهموا منطق وسائل الإعلام، ولو فهموا منطقها لعرفوا كيف يمرّرون رسالتهم إليها، يجب أن يخاطبوها بلغتها، أقصد أنّ عليهم أن يدرسوا وسائل الإعلام وأن يذهبوا إليها، عليهم أن يدرسوا الصحافة وكيف هي تعمل، هذا النّقد الذي ذكرته يردّده الجميع عن وسائل الإعلام، وليس المسلمون فقط، عندما نعرف كيف تشتغل وسائل الإعلام، نعرف كيف نستعملها ونوظّفها لتنقل ما نريد.

الحاجة إلى الحوار والتواصل

*هل تعتقد أنّ هذه الصّورة السلبية عن الإسلام والمسلمين، هي فقط مشكلة تعامل مع وسائل الإعلام وتبليغ للمعلومات؟ أم هي تعكس قضية أعمق، أعني مشكلة ثقافية يمكن اختصارها في ضعف أو غياب الحوار بين الثقافات والحضارات، أو حتّى ضعف إيمان البعض بجدواها؟

-نحن في مرحلة بالغة الصعوبة فيما يتعلّق بالعلاقة بين الثقافات، هناك من يؤمن بالصدام بين الحضارات، وهذا فكر خطير لا يخدم إلاّ المتطرّفين من كلا الجانبين، فالعلاقة بين العالم الغربي والعالم الإسلامي أصبحت صعبة فعلا خلال السّنوات الأخيرة، هذا له جذور تاريخية، وهناك أحداث حصلت خلال السنوات القليلة الماضية ساهمت في التّسريع بالخلافات بينهما. هذه مسألة خطيرة، وجدت صداها في وسائل الإعلام، وعندما تفعل وسائل الإعلام ذلك، فإنّها تخدم المتطرّفين، وتصبّ الزيت على النّار. نحن بحاجة ماسّة إلى تنشيط الحوار ومدّ جسور التواصل بين الجانبين، لأنّ ذلك يخدم مصلحة الجميع.

*بصفتك صحفيا له تجربة طويلة وخبرة في التعامل مع مختلف الأحداث، ما المطلوب من وسائل الإعلام الغربية لتنشيط الحوار بين المسلمين والغرب، وبناء جسور الثّقة وتعميق التفاهم بينهم؟

-على الصّحفي أن يتعامل مع الأحداث بمهنية، مهنتنا هي البحث عن الحقيقة وتقديمها للنّاس، المطلوب من الصّحفي أن يجتهد في البحث عن المعلومة، وتقديمها بشكل موضوعي، وليس البحث عن التناقضات والخلافات بدعوى السّبق الصّحفي، ويجب ألاّ ينسى الصّحفي أنّ المجتمع الأوروبي مجتمع متنوّع ومتعدّد، وحتّى يعطي صورة عن هذا المجتمع، فإنّ على هذا الصّحفي أن يعرف مختلف المجموعات الموجودة في أوربا، وأن تكون له معها علاقات واتصالات.

* وما هو المطلوب من المسلمين؟

-المسلمون مدعوّون إلى فهم منطق الصحافة وطرق عملها، وعليهم أن يجتهدوا في الاتصال بها، وأن يشجّعوا شبابهم على التّخصص في هذا المجال، ليساهموا بدورهم في صناعة هذا الإعلام، وإنتاج المادة الإعلامية.
Read more...

صناعة الأساطير للإسلاموفوبيا في الغرب الصليبي

صناعة الأساطير للإسلاموفوبيا في الغرب الصليبي

ربما لم يسمع الكثير من المسلمين عن ملحمة رولاند ""Chanson de Rolland، على الرغم من كونها من أهم المصادر التاريخية التي اعتمد عليها الغرب في تأريخ الحروب الصليبية. فهذه الملحمة تمثل أبلغ تعبير عن الشعور الذي ساد أوروبا في فترة الحروب الصليبية تجاه المسلمين، حيث تم تصوير المسلمين على أنهم كفار يعبدون الأوثان، يتسمون بالغدر فيهجمون على مؤخرة الجيش الفرنسي ليقتلوا البطل رولاند ابن أخ الإمبراطور الفرنسي شارلمان ويبيدوا المئات من جيشه، فما كان من شارلمان إلا أن عاد مسرعا بحملته الصليبية ليثأر لابن أخيه ويقضي على المسلمين ويخترق حصونهم.

وتعد ملحمة رولاند العنصر الرئيسي في دراسات الحضارة الغربية في جميع الكليات والجامعات في مختلف أنحاء البلاد. حيث يستهل الدارس قراءاته حول الحروب الصليبية التي بدأت عام 1095م بهذه القصيدة، والأدهى من ذلك أن هناك العديد من الأجيال المسيحية-اليهودية قد نشأت على كراهية المسلمين بسبب هذه القصيدة، التي تصور المسلمين على أنهم هؤلاء الأعداء الغادرين الذين قاموا بتهديد أسس الحضارة الغربية في يوم من الأيام.

لكن ما لا يعرفه الكثيرون عن ملحمة رولاند أنها تأسست على أساطير وأكاذيب مخترعة، وهذا ما كشف عنه جون فيفرالمدير المشارك لمشروع السياسة الخارجية تحت المجهر، التابع لمعهد الدراسات السياسية بواشنطن، ومدير الشؤون الدولية في مركز العلاقات الدولية، وهو مؤلف العديد من الكتب والمقالات، عمل سابقا رئيس تحرير مجلة السياسة العالمية، ومن أهم مؤلفاته "الأحادية الأمريكية والإستراتيجية العالمية بعد 11 سبتمبر " القومية الجديدة في أوروبا: الدول والأقليات في الصراع"، "موجات الصدمة: أوروبا الشرقية بعد الثورات"، وخلال عام 2011 سيقوم بنشر كتابه الجديد عن الإسلاموفوبيا.

فن صناعة الأساطير

في مقاله الأخير بعنوان "أكاذيب الإسلاموفوبيا" والذي نشر بموقع Foreign Policy In Focus ، فند جون فيفر الأكاذيب والخرافات التي يروجها الغرب حول الخوف من الإسلام، ودرسها في سياق تاريخي يعود لفترة الحروب الصليبية، حيث بدأ من ملحمة رولاند السابق الإشارة إليها والتي خلدت معركة رنسيفو التي جرت أحداثها في القرن الثامن الميلادي، ولكنها فيما بعد نسبت إلى القرن الحادي عشر لترويج خرافة لا أصل لها، والمشكلة في نظر جون فيفر أن تقوم ملحمة كاملة على أكاذيب مخترعة، فالجيش الذي هجم على رولاند وجنوده الفرنجة لم يكن من المسلمين على الإطلاق. ففي المعركة الحقيقية التي جرت عام 778م ، كان الهجوم من فرنجة الباسك المسيحيين الغاضبين آنذاك من شارلمان لقيامه بنهب مدينتهم "بامبلونا"، لم تكن ملحمة على الإطلاق كما سجلتها القصيدة، فهي مجرد معركة صغيرة من المعارك التي شهدتها أسبانيا في العصور الوسطى. وبعدها بثلاثة قرون كاملة بدأت الحروب الصليبية حين حشد الملوك والباباوات والفرسان جنودهم للقيام بأول حملة صليبية، حيث قام شاعر مجهول بإعادة اقتباس أبيات القصيدة لإشعال الحماس في قلوب الجنود المسيحيين حاملي الصليب الذين يخوضون حربا مقدسة ضد أعداء الله من المسلمين.

ويضيف فيفر أن الغرب ما زال يفكر في الحروب الصليبية على أنها نوع من "صدام الحضارات" التوراتي بين أتباع يسوع وأتباع محمد. وفي نسخة شعبية من روايات الحروب الصليبية، تم إحلال الخصم المسلم محل الكثير من أعداء المسيحية سواء كانوا يهود أو زنادقة، حيث تم استبدال هؤلاء بالمسلمين في الروايات لتصويرهم على أنهم الأعداء، ولا يخفى ما في ذلك من تزوير وتشويه للتاريخ وقلب للحقائق.

الأمر في نظر فيفر لم يتوقف فقط عند الحروب الصليبية، فبعد هذه الفترة بكثير ، وخلال الحرب الباردة، قام صانعو الأساطير في واشنطن بفعل مماثل، حيث استبدلوا الأعداء الذين عرفوا باسم الشيوعيين الملاحدة بمجموعة متباينة من القوميين المعادين للإمبراطورية في محاولة لتحويل النزاعات في أماكن نائية مثل فيتنام ، وغواتيمالا ، وإيران، وتصويرها على أنها ملحمة في صراع كبير بين قوى العالم الحر وقوى الشر. وفي السنوات الأخيرة، قامت إدارة بوش بكل هذا مرة أخرى من خلال تصوير القوميين العرب على أنهم أصوليين إسلاميين متعطشين للدماء كمحاولة لتبرير غزو العراق والتهديد بإسقاط النظام السوري.

الفوبيا المصطنعة

وتستمر صناعة الأساطير حتى اليوم كما يرى فيفر، فالخوف المرضي الذي يشوب الولايات المتحدة اليوم قد أصبح في أشده، فالرئيس الحالي المسيحي تماما يعتقد الكثير من الأمريكيين أنه مسلم، والمفكر الإسلامي طارق رمضان ينظر له بول برمان وآخرون من الكتاب على أنه أصولي منغلق التفكير. كما أن أحد المراكز الإسلامية في مانهاتن، والذي أسسه مجموعة من أنصار الحوار بين الأديان، صار يطلق عليه مسجد الجرواند زيرو الإرهابي المتطرف في نشرات الأخبار والخطب السياسية، وفي المدونات والمواقع الالكترونية التابعة لمجموعة من الناشطين اليمينيين.

هذا التشدد تجاه الإسلام انعكس كذلك بشدة في رسوم الكاريكاتير، مما ينذر بوصول الولايات المتحدة لمنعطف خطير، فالخطاب المعادي للإسلام ارتفعت نبرته بشدة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وازدادت جرائم الكراهية على الرغم من عدم وقوع هجمات إرهابية كبيرة في الولايات المتحدة أو أوروبا منذ تفجيرات لندن في 2005.

ويضيف فيفر أن الأمريكيين والأوروبيين قد ألفوا هذا الهراء وهذه الأكاذيب منذ الكذبة الكبرى التي روتها ملحمة رولاند وكأنهم توقفوا بذاكرتهم عند القرن الحادي عشر، حيث ظلوا من حينها في معركة أبدية بين "نحن" و"هم". وعلى الرغم من انتهاء الحروب الصليبية منذ القرن السابع عشر، فما زال المسلمون هم العدو، ومنذ انتهاء الحرب الباردة عام 1991، استبدل العدو السوفيتي الشيوعي بالعدو المسلم الإرهابي المتطرف، وذلك تحت اسم الحرب العالمية على الإرهاب، والتي تنتشر في عدة مناطق في أفغانستان،والعراق واليمن وباكستان وغيرها.

ويعتقد فيفر أن هذا الخوف المرضي من الإسلام لن يجلب سوى المزيد من الغضب في مناطق متفرقة من العالم وتهدر في سبيله الكثير من الأموال والثروات وتزهق المزيد من الأرواح، ولن ينتهي كل ذلك إلا تخلص الغرب من عقدة الحروب الصليبية وخرافاتها المصطنعة، فالخوف من الإسلام خوف غير عقلاني، فحتى لو قام بتنفيذ بعض الهجمات الإرهابية أصوليون مسلمون، وحتى لو مازالت بعض الجماعات الإرهابية تتبنى تنفيذ مخططات إرهابية، فمن الخطأ وضع كل هذه الجماعات في بوتقة واحدة واعتبارها تمثل الإسلام نفسه.

وعادة ما تتأصل المخاوف غير المنطقية لدى الأفراد منذ طفولتهم المبكرة وتستقر في العقل الباطن، وعلى نفس النمط يرصد فيفر ثلاث خرافات موروثة منذ الحروب الصليبية لدى العقل الغربي ، وهذه الخرافات الثلاث تشكل جوهر كراهية الإسلام حتى اليوم، وهي: المسلمون يتسمون بالعنف بطبيعتهم، المسلمون يريدون السيطرة على العالم ، المسلمون لا يمكن الثقة بهم.

الحملات الصليبية ما زالت مستمرة

الحقيقة – كما يراها فيفر- أن خرافة "الإسلام دين السيف" والتي كانت من دعائم الأدب والفن الصليبي، تجافي الواقع تماما، فما ارتكبه المسلمون من قتل للصليبيين على مدى الحروب الصليبية لا يقارن أبدا بالفظائع التي ارتكبها الصليبيون والمجازر الوحشية التي نفذوها بحق المقدسيين أثناء اقتحامهم القدس عام 1099م حيث حولوا المدينة إلى حمام دم حقيقي، وصارت الشوارع مغطاة بأكوام من القتلى، حتى أن بعض المسلمين الذي نجوا من المذبحة اضطروا لحمل الجثث خارج أسوار المدينة وحرقها في محارق هائلة وغسل الشوارع من الدماء، في الوقت نفسه لاقى اليهود مصيرا مماثلا على يد الصليبيين الذين أحرقوا منهم الكثير وهم أحياء وذبحوا الكثير أيضا في معبدهم الكبير. أما لو عدنا بالذاكرة لأربعمائة سنة سابقة لرأينا على النقيض من ذلك أن الخليفة عمر بن الخطاب دخل القدس بلا سيف، بل وقام بالتوقيع على العهدة العمرية التي تعهد فيها بعدم إكراه أحد من المسيحيين على الإسلام.

هذه الخرافة الأولى عن عنف الإسلام ساهم الكثير في تأصيلها وتكريسها، فالقس بات روبرتسون أعلن في عام 2005 أن الإسلام "يحض على العنف" ، واللواء جيري كاري الذي خدم في الجيش الأمريكي منذ عهد كارتر يقول "القرآن يعلم العنف ومعظم المسلمين، بما في ذلك من يسمون أنفسهم بالمسلمين المعتدلين، يتسمون بالعنف ويؤمنون به".

أما الخرافة الثانية كما يراها فيفر فقد اخترعها الصليبيون لتبرير العنف والوحشية التي تعاملوا بها مع المسلمين، حيث أكدوا أن هذا العنف تم لأن المسلمين كانوا مصممين على السيطرة على العالم، صحيح أن الإمبراطورية الإسلامية قد توسعت في أيامها الأولى لتوسيع دار الإسلام، إلا أن هذا الفكر التوسعي لم يكن موجودا أثناء الحروب الصليبية كما يؤكد فيفر، بل على العكس كان من أحد أهداف الحرب الصليبية رغبة البابا في بسط نفوذه على بقاع الأرض، حتى أن البعض من الصليبيين حاول استخدام القوة الناعمة لتحويل المسلمين عن دينهم خلال الحرب الصليبية الخامسة.

هذه الخرافة مازال الغرب يرددها حتى اليوم، فالمُدَوِنة المتطرفة باميلا جيلر تحذر من بناء مسجد الجراوند زيرو بنفس الحجة القديمة، أن الإسلام دين سياسي يهدف للهيمنة والتوسع، وأن الهدف النهائي للإسلام هو حكم العالم كله، ويعتقد جون فيفر أن هاتين الخرافتين (العنف المتأصل في الإسلام والرغبة في التوسع) قد أدتا إلى اقتناع راسخ بأن المسلمين بحكم طبيعتهم غير جديرين بالثقة، فأصبحت تلك هي الخرافة الثالثة.

فروبرت أوف كيتون الذي ترجم القرآن في القرن الثاني عشر اتهم النبي محمد بالكذب والتناقض، بل لقد غالى البعض في اتهام أي مسيحي ينادي بالتعايش مع الإسلام والتشكيك في نواياه فعلى سبيل المثال يعتبر البابا جريجوري أن القائد الصليبي فريدريك الثاني كان عدوا للمسيحية لأنه عمل على توثيق علاقاته مع المسلمين.

الخرافات مستمرة

يؤكد فيفر أن هذه الخرافات ما تزال مستمرة؛ فالكثير من الغربيين يعتبرون أن الإسلام هو دين العنف وأن مسلمي أوروبا المسالمين ما هم إلا قنابل موقوتة ومشروعات جهادية كامنة، وحتى المسلمون في أمريكا مطالبين بأن ينبذوا دينهم وإلا اعتبروا طابورا خامسا يجب القضاء عليه، بل لم يسلم من الاتهام بعض الأمريكيين المسيحيين الذي يتبوءون مناصب رفيعة، مثل عضو الكونجرس كيث إليسون، وفي إحدى المقابلات مع شبكة CNN عام 2006 قال جلين بيك ، "لقد كنت عصبيا جدا جراء هذه المقابلة ، فقد شعرت كما لو كنتم تودون القول : سيدي ، أثبت لنا أنك لا تعمل مع أعدائنا".

وفي نظر جون فيفر أن هذه الأساطير الثلاث للإسلاموفوبيا تزدهر في عصرنا ، تماما كما حدث منذ ألف عام بسبب الخلط الماكر بين نوع معين من الأصولية الإسلامية والإسلام نفسه. وقد عبر بيل أوريلي بدقة عن هذه العقلية الصليبية عندما أكد مؤخرا أن "التهديد الإسلامي للعالم ليس منعزلا بل هو في غاية الضخامة!"، والأمر نفسه ينطبق على نائب مساعد وزير الدفاع الأمريكي لشئون الاستخبارات السابق الجنرال ويليام بويكين الذي أدلى بتصريحات مسيئة ومشينة في خطبة شهيرة له عام 2003 حين دعا صراحة لحمل السلاح بأمر من الله وكأنه يعيد الصيحات الصليبية من جديد.

وفي عام 1951 ، قامت وكالة الاستخبارات المركزية والنخبة الناشئة المناهضة للشيوعية -والتي ضمت من بين أعضائها دوايت ايزنهاور الذي أصبح رئيسا للولايات المتحدة -، قامت بإنشاء الحملة الصليبية من أجل الحرية باعتبارها عنصرا أساسيا من حملة الحرب النفسية المتزايدة الموجهة ضد الاتحاد السوفيتي وبلدان شرق أوروبا، وكانت لغة هذه الحرب الصليبية لغة دينية عمدا. حيث استهدفت تلك الشعوب المتجذرة في تراث الحضارة الغربية ، والتي تعيش وراء الستار الحديدي المفروض عليها من قبل الديكتاتورية الملحدة، في دعوة صريحة لتحرير العالم الشيوعي ، وأثناء هذه الحرب الإعلامية تم إعادة ترديد نفس الخطاب الصليبي القديم منذ ما يقرب من ألف عام من ضرورة "استعادة القدس والبؤر الاستيطانية المسيحية الأخرى".

أسطورة الشمولية

يؤكد جون فيفر أن نفس الخرافات التي يرددها الغرب حول الإسلام كانت تردد آنذاك عن الاتحاد السوفيتي في إطار الحرب الباردة، فهو عدو يحارب بوحشية فريدة من نوعها من أجل نشر أيديولوجيته، ويرغب في التوسع والسيطرة على العالم، ولا يمكن الثقة بخطابه حول التعايش السلمي أو حول خطر الحضارة الغربية، بل من المفارقات أن الغرب قد آمن حينها بمبدأ "عدو عدوي هو صديقي"، فعمل على استخدام جماعات الإسلام الراديكالي كسلاح لمواجهة الشيوعية، مثلما أشار الصحفي روبرت درايفوس لذلك في كتابه "لعبة الشيطان" ، حيث ذكر تفاصيل قيام الولايات المتحدة بتمويل المجاهدين في أفغانستان كأحد أساليب حملتها الصليبية ضد الشيوعية في العالم الإسلامي.

وعلى الرغم من انتهاء الحرب الباردة بالسقوط المفاجئ للاتحاد السوفيتي في عام 1991، فإن كثير من العقول المفكرة والمؤسسة للخرافات والأساطير حول الشيوعية ظلت على نفس النمط من التفكير، كل ما في الأمر أنها بدلت العدو السوفيتي بالعدو الإسلامي.

ويتابع فيفر في مقاله رصد الخرافات التي يروجها الغرب حول الإسلام فيعتبر أن البعض قد تمادى بوصف الإسلام بنفس الصفة التي سبق وألصقوها بالشيوعية ألا وهي الشمولية، فصار هناك إسلاما شموليا على غرار الشيوعية الشمولية، وصار هناك إسلاما فاشيا وفق أنصار مدرسة "الإسلام الفاشي"، التي تضم نورمان بودهورتز ، ديفيد هورويتز ، بيل أورايلي ، باميلا جيلر. فقد أصبح الأصوليون ببساطة هم "الشموليين الجدد" ، تماما كما كان يطلق على الشيوعيين. ويكفي أن تسمع مقولة المفكر اليميني الليبرالي بول برمان الذي حاول إثبات أن "المسلمين المعتدلين" هم أصوليون في ثوب إصلاحي.

ووفقا لجون فيفر فإن هؤلاء ينظرون لكل العالم الإسلامي على أنه كتلة واحدة، تماما كما كانوا ينظرون للاتحاد السوفيتي والشيوعية، وكما فشلت الإدارة الأمريكية في مكافحة الشيوعية حين ساوت بين ليونيد بريجنيف الشيوعي المتشدد، وميخائيل جورباتشوف الشيوعي المصلح، فإنها ستفشل كذلك في مكافحة الإسلام حين تساوي بين المتشددين والمصلحين، وحين ترى أن جذور الإرهاب كامنة في الإسلام نفسه لا في تصرفات فئات متطرفة من المسلمين، تماما كما كان يُنظر إلى الشعب السوفيتي أثناء الحرب الباردة.

سياسة صليبية واحدة

من اللافت للنظر حسبما يرى جون فيفر أن الرئيس أوباما كان حريصا بصورة مبالغ فيها أثناء حملته الانتخابية على تأكيد هويته المسيحية، فكثيرا ما شوهد يصلي في الكنائس، مع تجنبه المساجد وكأنه حريص على طمس أي آثار للهوية الإسلامية في ماضيه، وبطبيعة الحال ركز منافسوه أيضا خلال الحملة الانتخابية على اسمه الأوسط حسين، وأكدوا على تعاطفه مع الفلسطينيين، كما حاولوا تحويل الدوائر الليبرالية - ولا سيما تلك اليهودية الأمريكية - ضد الرئيس المفترض.

وفور وصوله للسلطة أعلن تخليه عن سياسات إدارة بوش تجاه العالم الإسلامي، وأعلن عن عزمه سحب القوات الأمريكية من العراق وأفغانستان، وحاول الضغط على حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لوقف توسيع المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة ومن أجل العودة للمفاوضات (على الرغم من عدم اللجوء إلى هذا النوع من الضغوط الذي قد يكون مفيدا ، مثل الخفض أو حتى وقف صادرات الأسلحة الأمريكية لإسرائيل). ولكنه ما إن وصل القاهرة وألقى خطابه الشهير الذي وجهه للعالم الإسلامي في يونيو 2009 ، حتى استعار نفس المصطلح الذي أطلقه بوش باسم "الحرب العالمية على الإرهاب".


وبعد مرور ما يقرب من عامين على توليه الرئاسة الأمريكية ما زالت القوات الأمريكية مرابطة في الأراضي الأفغانية، وتصاعدت الهجمات على الحدود الباكستانية والتي شنتها طائرات أمريكية بدون طيار، وانتشرت القوات الأمريكية الخاصة المتمركزة في 75 دولة حول العالم أي أكثر مما كان في عهد بوش بأكثر من 15 دولة، وفي نفس الوقت ما زالت معسكرات جوانتانامو مفتوحة ، وما تزال الولايات المتحدة تمارس عمليات الملاحقات الأمنية والتسليم والاغتيالات كجزء من الأدوات التي تتبعها واشنطن.

فمعظم المدنيين الذين قتلوا في هذه العمليات العسكرية من المسلمين، وأغلب المعتقلين والملاحقين الذين يتم استجوابهم من المسلمين، وأكثر المباني التي دمرت هي للمسلمين، وكنتيجة لذلك كما يرى جون فيفر أن هذا الخطاب الصليبي والممارسات الصليبية قد أدت لانخفاض شعبية أوباما الآن داخل العالم الإسلامي كثيرا عن بداية فترة رئاسته، ففي مصر انخفضت نسبة تأييده من 41٪ عام 2009 إلى 31٪ الآن، وفي تركيا انخفضت من 33٪ إلى 23٪، وفي باكستان من 13٪ إلى 8٪.

في الوقت نفسه يؤكد فيفر أن ما يشهده العالم الغربي أحيانا من هجمات حاليا دافعها الانتقام لما ارتكبته أمريكا منذ الحادي عشر من سبتمبر وليس دافعها الدين، والكثير من المسلمين اليوم يرون إدارة أوباما كامتداد لإدارة بوش تماما في التصعيد ضد المسلمين.

ويختتم فيفر مقاله بالتحذير من استمرار الإسلاموفوبيا؛ فالانتصارات التى حققتها حركة الشاي الأمريكية وتصاعد أصوات الجمهوريين المتشددين في الكونجرس، ناهيك عن نهضة اليمين المتطرف في أوروبا، كل هذه الشواهد توحي بأن الغرب سوف يعيش مع هذا الخوف المرضي لبعض الوقت. فيقول "إذا كانت الحروب الصليبية قد استمرت مئات السنين، دعونا نأمل أن الإصدار الثاني من الحملات الصليبية، وعصر الظلام الذي وضعنا أنفسنا فيه، يكون أقصر عمرا من ذلك بكثير"

Read more...